صراع الحضارات بين الواقع والمأمول
يسر مركز الوعي للدراسات الإفريقية أن يقدم للقراء الكرام إضاءات تاريخية حول فكرة الصراع الحضاري.
ظهرت مع نهاية الحرب الباردة مجموعة من الأطروحات التي تُقِرُّ بالتحوُّل الجذريّ للعلاقات الدوليّة، وهذه الأطروحات تنظر بشكل سلبيٍّ ومتشائمٍ لما ستكون عليه الحضارات من صراعاتٍ عنيفةٍ بدلاً من أن تقوم على المصالح الاقتصاديّة المتبادلة، ويُعتبَرُ البروفيسور صامويل هنتنجتون (بالإنجليزيّة: Samuel Huntington مِن أشهرِ مَن تحدَّثَ عن نظريّة صراع الحضارات.
لقد جاءت فكرة صراع الحضارات في البداية على شكل مقالٍ صغيرٍ نُشِرَ عام 1993م في إحدى المجلاّت الأمريكيّة. وقد انتشر مقال صامويل هنتنجتون بشكلٍ كبيرٍ وواسع، وكان المقال الأكثرَ قراءةً منذ أن صدرت هذه المجلّة وبعد عدّة سنوات قام هنتنجتون بصياغة مقالته في كتابٍ شرحَ فيه نظريَّتَه بشكلٍ مُوسَّعٍ، كما برَّرَ كلَّ ما ذكرَه في ذلك المقال، وفي مقالنا هذا سوف نتحدّثُ عن أهم القضايا التي تناولها هذا الكتاب .
القضايا التي تناولها كتاب صراع الحضارات :
يرى صامويل هنتنجتون في كتابه (صراع الحضارات) أنَّ الصّراعات التي سوف تنشأ بعد الحرب الباردة سوف تكون صراعاتٍ حضاريّة ذات أسباب ثقافيّة، ودينيّة وليست صراعاتٍ قوميّةً ذات عوامل سياسيّة، أو أيدولوجيّة، أو حتى اقتصاديّة، ومن أهمّ القضايا التي تحدّثَ عنها هنتنجتون في كتابه:
- – تَغيُّرُ السّياسة الدوليّة لتصبح ذات أقطابٍ وحضاراتٍ مُتعدِّدة، فالحداثة على حدّ قوله ليست المنتج للحضارة العالميّة بالفرنسيّة: Civilisation Universelle كما كان يعتقد أصحاب نظريّة الحداثة؛ فقد عارض هنتنجتون كارل دوتش صاحب نظريّة الاتّصال، كما عارض روستو وغالبرايت أصحاب نظريّة التّقارب.
- – تَغيُّرُ واختلاف ميزان القوى بين الحضارات: يتحدّث صامويل هنتنجتون عن تأثير الغرب النسبيّ الذي بدأ بالتّناقص، فهو يرى أنَّ الحضارات الآسيويّة أصبحت ذات قوّة أكبر في مختلف المجالات الاقتصاديّة، والسياسيّة، وكذلك العسكريّة، وأنَّ العالم الإسلاميّ أصبح قوّةً حقيقيّة وهي عامل تهديد للحضارات التي تجاورها على حد رأيه، وقد قَدَّم هنتنجتون مجموعة من الإحصاءات التي تُظهِر تناقُصَ الأوروبيّين بالنّسبة للعدد الإجماليّ لسكّان العالم، وفي المقابل تزايد عدد الآسيويّين والمسلمين.
- – صعود الإسلام من الأمور التي تحدّثَ عنها صامويل هنتنجتون في كتابِه (صراع الحضارات)، وقد ذكر في كتابه الامتداد الإسلاميّ من النّاحية الجغرافيّة، وكذلك من النّاحية السكانيّة، حيث وصلت مساحة البلاد الإسلاميّة إلى ما يقارب 21% من المساحة المأهولة، ووصل عدد المسلمين إلى مليار نسمةٍ، كما سيطروا على نسبة كبيرة من الاحتياط العالميّ للنّفط والغاز، وقد كان صامويل هنتنجتون قلقاً من أنَّ العالم الإسلاميّ غير قادر على مواجهة تحدّيات التّنمية الاقتصاديّة.
- – ظهور نظام دوليٍّ جديد يقوم على أساس الحضارة، وهو يضمّ تجمّعات اقتصاديّة لها هويّة مشتركة وهذا سرّ نجاحها، وقد ذكر هنتنجتون أمثلة على ذلك منها مجموعة الكاراييب بالإنجليزية : Caricom التي تضم مستعمرات بريطانيّة قديمة يَبلُغُ عددها 13 مستعمرةً، وبحسب رأي هنتنجتون فإنَّ العالم سوف يقسم إلى خمس حضارات وهي:
- – حضارة الغرب: تضمُّ هذه الحضارة أمريكا الشماليّة وأوروبا الغربيّة، وقد تشكَّلَت من امتداد المسيحيّة واعتمدَت على العلمانيّة بشكلٍ أساسيٍّ.
- – الحضارة الأرثوذكسيّة: تضمُّ هذه الحضارة العالم الروسيّ، وأوروبا الشرقيّة، وقد ظهرت في هذه الحضارة سيطرة الكنيسة الأرثوذكسيّة.
- – الحضارة الهندوسيّة: وتضمُّ هذه الحضارة الهند وبعض الدّول القريبة منها. الحضارة البوذيّة الكونفشيوسيّة: تضمُّ هذه الحضارة الصّين ومن يعيشون في الشّتات منهم.
- – الحضارة الإسلاميّة: وتضمُّ هذه الحضارة جميع البلاد التي يدين أفرادها بدين الإسلام.
علاقة الغرب أو الحضارة الغربية مع الآخرين
يحدد صامويل هنتنجتون عدة سيناريوهات لعلاقة الغرب أو ” الحضارة الغربية” ويقصد الولايات المتحدة وكندا والاتحاد الأوروبي، وإلى حد ما اليابان، مع ” الآخرين” .
إذ يقول هنتنجتون بأن الغرب لا يواجه تحديا اقتصاديا من أحد، وقرارات الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي تعكس بطريقة أو بأخرى مصالح الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وإن جاءت متنكرة باسم ” المجتمع الدولي” بغرض إضفاء الشرعية على قرارت تصب في مصلحة الولايات المتحدة بالدرجة الأولى.
إذ تستعمل الدول الغربية مزيجا من القوة العسكرية والمؤسسات الدولية والترويج لقيم الديمقراطية والليبرالية لحماية مصالحها وضمان هيمنتها على إدارة العالم. يعقب هنتنجتون بالقول أن هذه هي نظرة غير الغربيين على الأقل وفيها جانب كبير من الحقيقة.
يقول هنتنجتون بأن النضال والسعي العسكري والاقتصادي للقوة هو ما سيحدد شكل الصراع بين الغرب والحضارات الأخرى مهما حاول الغرب أن يقول أن قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والعلمانية والدستور هي قيم عالمية تستفيد منها البشرية جمعاء، فوفقاً لهنتجتون، صحيح أن جوانب من الحضارة الغربية وجدت طريقها في حضارات أخرى ولكن قيم الديمقراطية وسيادة القانون والسوق الحر قد لا تبدو منطقية في عقلية المسلمين أو الأرثوذكس وسيؤدي لردود فعل سلبية.
وفقا لهنتجتون، الديمقراطية والتعليم يؤديان لعملية «تأصيل» المجتمعات وعودتها لـ«جذورها»، تحضر المجتمعات يؤدي لتبنيها قيما غربية سطحية ولكن شرب كوكا كولا لا يجعل الروسي أميركيا، ولا أكل السوشي سيجعل من الأميركي يابانيا، فانتشار السلع الاستهلاكية الغربية ليس مؤشرا على انتشار الثقافة الغربية.
حدد هنتنجتون سيناريوهات للصراع بين الغرب ومن سماهم بالـآخرين:
أن تحاول تلك الدول عزل نفسها وحماية مجتمعاتها من «الفساد الغربي» وربما الانعزال عن ساحة السياسة الدولية، ولكن ثمن ذلك باهظ ودول قليلة لديها المقدرة على الشروع في خطة كهذه.
السيناريو الثاني أن تعمل تلك الدولة محالفة الغرب وتغريب مجتمعاتها مثل تركيا.
السيناريو الثالث هو أن تتحالف تلك الدول أو الحضارات مع حضارات غير غربية أخرى وتسعى لتشكيل قوة اقتصادية أو عسكرية معها بغرض تحقيق التوازن أمام الدول الغربية.
يختم هنتنجتون بالقول أنه لا يقترح اختفاء الدول القومية، أو بروز هذه الحضارات ككتل سياسية واضحة وموحدة، ولا يقترح أن الاقتتال الداخلي سينتهي، ولكنه يقول أن «الضمير الحضاري» أمر واقعي وحقيقي ويتزايد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، نخب مثقفة في دول غير غربية ستعمل على تقارب بلدانها مع الغرب ولكنها ستواجه بعراقيل كثيرة، الصراع القادم سيكون بين «الغرب والآخرين» والمستقبل القريب يشير إلى صراع بين الغرب والدول ذات الأغلبية المسلمة، وعلى الغرب أن يقوي جبهته الداخلية بزيادة التحالف والتعاون بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومحاولة ضم أميركا اللاتينية القريبة جدا من الغرب، وكذلك اليابان.