هل ستنجح ” بريكس” في كسر هيمنة الدولار؟
بقلم د. عطية عدلان
حلمٌ يتراءى للعالمين أجمعين عدا الأمريكيين، ورؤية استراتيجية حالمة يتحدث عنها -على استحياء وبقدر غير قليل من التلعثم- جميع الساسة فوق كل مأهول من أرض الله، خلا أولئك الذين يتجولون ويغدون ويروحون -بقدر غير قليل من الكبرياء والعجرفة- فوق بلاط البيت الأبيض والمؤسسات الأمريكية الأشد (بياضًا!)، فما أعظم تشوُّف الخلق للخلاص من هيمنة الدولار! وما أكثر المظالم التي وقعت على العباد والبلاد جرّاء اعتماد الدولار عملة معيارية بعد انهيار قاعدة الذهب! يكفي أن كل ورقة بنكنوت تُطبع بالدولار تَسحب من جيوب قاطني كوكب الأرض جميعًا ما يمكّنها من تغطية ما تحدثه من فارق في التضخم، أمّا عمّا تمارسه أمريكا من هيمنة على العالم؛ بسبب انفرادها بامتياز الدولار، وهيمنتها على نظام السويفت؛ فحدّثْ ولا حرج، ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما فعلته بروسيا بعد حرب أوكرانيا؛ حيث أوشكت على عزلها عن العالم كليًّا، لولا مواجهة روسيا لهذا التحدي بإجراءات فعالة.
قمة "بريكس" الأخيرة والتوسع الواعد
عُقدت قمة بريكس السادسة عشرة في “قازان” بروسيا في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، واستمرت ثلاثة أيام، وشهدت توسعًا في العضوية وتوسعًا كذلك في طلبات العضوية، فقد بدأت مجموعة بريكس عام 2006 بأربع دول، هي البرازيل وروسيا والصين والهند، ثم التحقت بها في عام 2010 دولة جنوب إفريقيا، أمّا الآن فقد اتسعت لتشمل دولًا أخرى، وبعدها أعربت -حسب تصريح لبوتين- 34 دولة عن رغبتها في الانضمام إلى المجموعة، ومما أعطى القمة الأخيرة زخمًا كبيرًا أن وفودًا من 32 دولة بينهم 24 من قادة الدول حضروا القمة، هذا التوسع وهذا التنامي يبشر بنجاح كبير للمجموعة في ظل الإحباط الذي يخيم على جميع دول العالم وشعوبه، ولاسيما مع السُّعار الذي أصاب أمريكا أخيرًا.
"بريكس" والقيمة الكبيرة
حسب بيانات البنك الدولي، فإنه بدءًا من عام 2023، شكلت مجموعة “بريكس” نحو 27% من الناتج الإجمالي العالمي، كما أنها تمثل 45% من سكان العالم، ومع انضمام كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وإيران، صارت مجموعة بريكس تضم ثلاث دول من أكبر الدول المصدرة للبترول في العالم، إذ تمثل صادراتها 42% من صادرات النفط العالمية، وذلك وفقًا لبنك الاستثمار الهولندي (ING). وحسب البنك الجديد للتنمية، الذي أُسّس عام 2015، فإن هذا البنك وافق على 98 مشروعًا على الأقل في دول من مجموعة “بريكس” حتى يوليو/تموز 2023، وذلك بإجمالي استثمارات بلغت نحو 33.2 مليار دولار، وقد غطت هذه المشروعات مجالات متعددة، شملت مشروعات الطاقة النظيفة، ومشروعات البنية الأساسية للنقل، ومشروعات حماية البيئة، وحماية البنية الأساسية الرقمية.
ومن الطريف في عالمنا المخيف أن دول مجموعة “بريكس” قامت في الفترة الأخيرة بالدفاع عن حقوق الإنسان، بل ودافعت عن الحقوق التي للدول النامية في مجالات عديدة، سياسية واقتصادية وبيئية، وصولًا إلى قضايا جيوسياسية، وأثارت باهتمام بالغ قضايا تتعلق بالأمن الغذائي والأمن الصحي والوقاية من الأمراض والأوبئة، والإصلاح من سياسات صندوق النقد الدولي مع الدول النامية؛ مما أدى إلى تبديد شكوك البلدان النامية اتجاه الدول القوية المؤسسة للمجموعة، ولا سيما دول الجنوب مثل إفريقيا وجنوب آسيا، وإلى منح قدر من الطمأنينة حيال السؤال الذي يطرح نفسه بالضرورة عمّا إذا كانت القوى التي تقود المجموعة ستعطي الأولوية لمصالحها أم ستلتزم بميثاق المجموعة؟ هذه المبادرات -بلا شك- اجتذبت المزيد من البلدان النامية إلى “بريكس”، وستؤدي بالقطع إلى اجتذاب المزيد، فإذا أضيف إلى ذلك رغبة بلدان العالم -ولا سيما الدول النامية- في الخلاص من سطوة النظام الدولاري، وتطلُّع البشرية لتعددية قطبية تتيح هامشًا من الحرية؛ فإن جاذبية “بريكس”، ستكون في المستقبل القريب شديدة، وربما زاد من الإقبال عليها اتفاق مصالح العديد من الدول مع توجهات المجموعة.
الخروج منه
ليس سهلًا التملص من قبضة النظام المالي العالمي الذي يهيمن عليه الدولار، هكذا يقرر العديد من الخبراء، ولكنهم في الوقت ذاته يؤكدون أنه ممكن على المدى البعيد، بتدرج وصبر وطول نفس، وفيما يبدو فإن المجموعة عازمة على ذلك. ففي مارس/آذار 2023، صرَّح ألكسندر باباكوف – نائب رئيس مجلس الدوما الروسي – بأن روسيا تقود الآن عملية تطوير للعملة الجديدة، وبأنه سيتم استخدام هذه العملة للتجارة عبر الحدود بينها وبين دول مجموعة “بريكس”، وترى الدول الأعضاء في المجموعة أن هذه العملة -التي لا تزال تحت التطوير- من المفترض أن تسمح لدول المجموعة بفرض سيادتها الاقتصادية الخاصة أمام هيمنة الدولار، إضافة إلى أن روسيا من قبل صدَّقت على اتفاقية لإنشاء “تجمُّع احتياطي” من العملات الأجنبية بقيمة 100 مليون دولار، وهو التجمع الذي أُطلِق عليه “ترتيب الاحتياطات الطارئة”، والمحاولات وصلت الآن إلى حد أن بعض دول المجموعة تتبادل الآن عمليات تجارية فيما بينها بعيدًا عن يد الدولار، وإنْ كان ذلك في حدود ليست واسعة، ولكنها بداية موفقة.
فرصة العالم الإسلامي
مما لا خلاف فيه أن العالم الإسلامي بحاجة إلى تحرر واسع من الهيمنة الاقتصادية، ليس فقط من هيمنة الدولار، وإنما من الهيمنة الاقتصادية العالمية بكل أدواتها وأجهزتها ومؤسساتها، هذا التحرر مرهون بشيء واحد، هو توفر الإرادة السياسية لدى قادة الدول الإسلامية، لأن جميع المؤهلات متوافرة، فالعالم الإسلامي واسع وممتد بما يجعله يملك جميع المنتجات التي تقع الحاجة إليها، ويحوز من الموارد والدخول ما يمكّنه من إحداث تكامل اقتصادي وتحالف سياسي، بل وعسكري، وتعاون في كل الميادين، فإذا كان العالم يبحث اليوم عن تحالفات ينال من خلالها حريته؛ فنحن أولى بذلك، وإلى حدوث هذا فإن مجموعة “بريكس” تُعَد تجربة لا بأس بها، وأحسبها خيارًا مرحليًّا إلى أن يتحقق للأمة ما تصبو إليه من الرشد، ولعل ما يجري الآن من محاولات للخلاص يفتح الباب لنا لننال حريتنا، والله المستعان.